لذة العلم
الإنسان متقلِّبٌ في اللذات بين لذتين :
الأولى : حسِّيَّة .
الثانية : عقلية : .
و أسماهما العقلية ، و غايتها العلم .
فالعلم لذة من اللذائذ العقليَّة ، و هو ذو لذة رفيعة نفيسة .
لذة العلم لها مجالان :
الأول : لذة حال تحصيله و طلبه .
و هذه اللذة أنواع :
الأول : لذة باعتبار المقصد ( أي النية ) ؛ و الناس في نية الطلب أقسام :
أحدها : أن يكون طلبه لله ( فهذا مأجور ) .
ثانيها : أن يكون طلبه لغير الله ( فهذ يأثم )
ثالثها : أن يكون طلبه لا لله و لا لغير الله ( فهذا لا يثاب و لا يعاقب ) .
و الأخيرة هي ( حال أكثر النفوس ، فإن الله خلق فيها محبة للعلم و المعرفة و إدراك الحقائق ، و قد يخلق فيها محبة للصدق و العدل و الوفاء بالعهد ، و يخلق فيها محبة للإحسان و الرحمة بالناس ، فهو يفعل هذه الأمور لا ليتقرَّب بها إلى أحد من الخلق ، و لا ليطلب مدحَ أحد و لا خوفاً من ذمه ...
و المقصود _ هنا _ أن محبة هذه الأمور الحسنة ليس مذموماً بل محموداً ، و مَنْ فعل هذه الأمور لأجل هذه المحبة لم يكن مذموماً و لا معاقباً و لا يقال إن هذا عمله لغير الله ، فيكون بمنـزلة المرائي و المشرك ، فذاك هو الشرك المذموم ، و أما مَنْ فعلها لمجرَّد المحبَّة الفطرية فليس بمشرك و لا هو _ أيضاً _ متقرِّباً بها إلى الله حتى يستحق عليها ثواب مَنْ عملَ لله و عبده ) أهـ .
[ انظر : مسألة فيما كان للعبد محبة لما هو خير و حق و محمود في نفسه ، لشيخ الإسلام ( 445 –450 ) ضمن مجموع ( دراسات عربية و إسلامية مهداة إلى أديب العربية محمود شاكر ].
الثاني : لذة باعتبار التحصيل ( أي ما حصَّلَه من العلم ) .
الثالث : لذة باعتبار القَدْر ( أي ما ناله الطالب من قَدْرٍ و مكانة بسبب الطلب ) .
و كلها لا تخلو من مراعاة .
الثاني : لذة بعد إدراك قَدْرٍ منه ، و حال العمل به .
فهذان مجالان للعلم يَتَحَصَّل للطالب فيهما لذته و حلاوته .
و المراد باللذة العلمية : استلذاذ مسائل العلم و تذوق حلاوته ، و تحمُّل المشاق في تحصيله ، و إيثاره على أعراض الدنيا .
و ضابطها : ألاَّ تكون مُشْغِلَةٌ عن الأمور الأهم في العلم و طلبه ، و عن أصول الفنون بفروعها .
و لِيُعْلَم : أن لذة العلم مُقَيَّدة ٌبأمرين :
الأول : أن يكون بقصد و تؤدة .
الثاني : أن يكون بتوسُّطٍ .
إن غالب طلاب العلم حين يَحْلُو له العلم و يتذوَّق لذته ينجرف مع تلك اللذة فيقع في إهمال مهامٍ كبار ، و هذا خلل جَلَلٌ .
فلابد من مراعاة هذين القَيْدَيْن ، و الحذر من رونقة العلم و لذته المُفْضِيَة إلى ترك أمور أكبر .
و لهذه اللذة صور :
الأولى : اشتغال جملة من الطلاب بفنون ثانوية ، و ترك الفنون الأصيلة .
و ليس مرادي ذم الاشتغال بالفنون الكمالية ، و إنما مرادي : أن يشتغل الطالب بالعلوم الآلية و يعرض الإعراض _ الكلي أو الجزئي _ عن علوم الغاية .
الثانية : الاشتغال بمسائل فنٍّ فرعية جزئية دقيقة مع إهمال أصول ذلك الفن و أُسس مسائله .
الثالثة : الصعود إلى العلوم الكبار لمن لم يتقن بدائيات العلم .
إلى صُوَرٍ عديدات .
و لذة العلم مُنَالَةٌ بأمور :
الأول : الإخلاص لله في الطلب .
الثاني : سلوك جادة العلم المطروقة من التدرج من : الأصغر فالأوسط فالأكبر .
الثالث : إعمال الذهن و العقل في العلم تفهُّماً و استنباطاً .